بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد واله وصحبه وسلم
فقد وهب الله لك حسن الاستماع، وأشعر قلبك حب التثبت، وجعل أحسن الأمور في عينيك، وأحلاها
في صدرك، وأبقاها أثراً عليك في دينك ودنياك علماً تفيده وضالاً ترشده، وباباً من الخير تفتحه،
وأعاذك من التكلف، وعصمك من التلون، وبغض إليك اللجاج، وكره إليك الاستبداد، ونزهك عن
الفضول، وعرفك سوء عاقبة المراء، وقد علمت مع ذلك من مدح بقوله:
من رأي ذي بدآت لا تزال له بزلاء يعيا بها الجثامة اللبد
وأن الآخر قد قال:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد
ولا أعلم الموصوف بالاستبداد إلا مجهلاً مذموماً، ولا أعرف المنعوت بالبدوات إلا مدفعاً مضعوفاً.
وإنما الشأن في وجدان آلة التصرف، وفي تمام العزم بعد التبين، لا أعرف إلا هذين... فليتصور ما
زاد...
وما كلام الشاعر في قصيدته إلا كقول الخطيب في خطبته، وما ذلك إلا كاحتجاج المحتج واختبارالمختبر...
وفي كل ذلك يكون الخطأ والصواب...
وقد قال الشاعر:
قليل تصاريف الخليقة لا ترى خليلاً لعبد الله في الناس قاليا
وقد وصف الآخر قول... المتلون والمستطرف، فقال:
شر الأخلاء خليل يصرفه واش وأدنى صاحب يستطرفه
ملون تنكره وتعرفه
فاجعل محاسبة نفسك صناعة تعتقدها، وتفقد حالاتك عقدة ترجع إليها، حتى تخرج أفعالك مقسومة
محصلة، وألفاظك موزونة معدلة، ومعانيك مصفاة مذهبة، ومخارج أمورك مقبولة محببة، فمتى كنت
كذلك، كانت رقتك على الجاهل الغبي، بقدر غلطتك على المعاند الذكي، وتحب الجماعة بقدر بغضك
للفرقة، وترغب في الاستخارة والاستشارة بقدر زهدك في الاستبداد واللجاجة، وتبدأ من العلم بما لا
يسع جهله، قبل التطوع بما يسع جهله.
ولا تلتمس الفروع إلا بعد إحكام الأصول، ولا تنظر في الطرف والغرائب وتؤثر رواية الملح
والنوادر، وكل ما خف على قلوب الفراغ وراق أسماع الأغمار، إلا بعد إقامة العمود، والبصر بما
يثلم من ذلك العمود، فإن بعض من كلف برواية الأشعار بدأ برواية أشعار هذيل قبل رواية شعر
عباس بن الأحنف، ورواية شعر ابن أحمر قبل رواية شعر أبي نواس، وناس من أصحاب الفتيا