رواية صَيّادَا الجَزِيرَة
الفصل الأول: نَفَسُ النَّهْر
كانت الشمس تميل نحو دجلة، تنثر خيوطها الذهبية على صفحة الماء الهادئ كأنها تودّعه قبل الغروب.
في تلك اللحظة، كانت الجزيرة تشبه قطعة من التاريخ العالق بين الحلم والرماد،
البيوت الطينية تلوذ ببعضها، والريح تمرّ على السنابل اليابسة كأنها تهمس بسرّ قديم.
على ضفة النهر جلس محمد الجميلي، رجل في الأربعين من عمره، عركته الرياح وشمسه الشرقاط،
وجهه سمرة الجبال وصمته عميق كجرف الماء.
كان يُصلح شباكه بصبر الصيادين الذين تعلّموا من النهر أن الرزق لا يُستعجل.
وبجانبه جلس عبدالله البزنة، رفيق الصيد منذ الصبا،
يمتلك ضحكة صافية تكسر سكون المكان،
لكن في عينيه بريق لا يهدأ، كأنه يخفي خلفها شيئًا أكبر من الصيد.
قال عبدالله وهو يمدّ يده إلى الماء:
ـ تدري يا محمد… هذا النهر يعرفنا أكثر من أهلنا. كل مرّة نغيب، يرجع يستقبلنا بنفس الطيبة.
ابتسم محمد وقال:
ـ النهر مثل الأم، ما يملّ من أولاده، حتى لو رجعوا خايبين.
ضحك عبدالله بصوت عالٍ، ثم أشار إلى الضفة المقابلة:
ـ هناك، يم النخلتين، قبل سنين، غرگت أول سمچة صادنها سوا.
ـ أذكرها… يومها رجعت للبيت خالي اليدين، وأبويه حسبوني كاسر الدنيا رزق.
ـ الرزق مو بس سمچة، يا محمد. الرزق نية، وصحبة، وضمير مرتاح.
سكت الاثنان، وأخذ النهر يتنفس بينهما، يحمل في مجراه كل ما مضى من مواسم.
لكن الجزيرة كانت تُخفي في أعماقها ما لا يُقال.
فالناس يتحدثون عن نورٍ يظهر في الليالي المقمرة، وعن صوتٍ غريب يأتي من عمق النهر حين يسكت كل شيء.
وكان عبدالله هو أول من صدّق تلك الحكايات، أما محمد فظلّ يقول:
ـ اللي يسمع النهر، لازم يعرف يفرّق بين الموج والصدى.
تلك الليلة، قررا أن يبيتا عند الشط.
نصبا خيمتهما الصغيرة، أشعلا النار، وأخذا يتحدثان عن الصيد، عن الأيام، وعن أحلام لا تشيخ.
لكن مع اقتراب منتصف الليل، سمعا صوتًا خافتًا، كأنه أنين…
خرج من عمق الماء، متقطّعًا، غريبًا.
تبادلا النظرات، وقال عبدالله بصوت خافت:
ـ سمعت؟
ردّ محمد:
ـ إي، بس لا تتخيل… يمكن موج.
غير أن الموج تلك الليلة لم يتحرك.
وكانت الشرارة الأولى لقصة لن ينساها أحد
بقلم محمد الخضيري الجميلي