الصبر والمرايا
قصة قصيرة
في إحدى المدن الصغيرة، كانت تعيش شابة تدعى "رنا"، فتاة في بداية العشرينيات تتمتع بجمال أخاذ، ولكن روحها كانت مشتعلة دائمًا، مليئة بالعواصف التي لا تهدأ. تزوجت رنا من رجل يُدعى "سامي"، رجل في بداية الأربعينيات، اتسم بحكمة نادرة وطيبة قلب تكاد تُعد من الخيال. كان سامي كريمًا لدرجة أنها كانت تجد نفسها مذهولة من سخائه، وحنانه الذي يغمرها كالشمس الدافئة في يوم شتوي.
رغم كل شيء، كانت رنا تحمل في داخلها نارًا غير مفهومة. كلما حدث خلاف صغير، كانت تتحول إلى إعصار، تستخدم كلماتها كالسيوف، تجرح سامي بلا رحمة، تسبه وتسب أهله وقبيلته وكل من يحيط به. تكسر الأثاث، تغضب، وتغلق على نفسها أبواب الغضب. أما سامي، فلم يكن يرد. كان يقف ثابتًا كجبل أمام عاصفتها، يصمت، وينظر إليها بعينين مليئتين بالحب والصبر، ثم يغادر بهدوء ليتركها مع نفسها.
في كل مرة، كانت رنا تتوقع أن ينفجر، أن يرد عليها، أن يعاملها بالمثل، لكنه لم يفعل. بل كان يعود إليها بعد ساعات أو أيام، يحمل هدية صغيرة أو كلمة دافئة، يُطفئ بها نيرانها، ويعيد المياه إلى مجاريها.
في إحدى الليالي، وبعد شجار عنيف بينها وبينه، نظرت رنا في المرآة. كانت ترى في انعكاسها وجهًا غاضبًا، وعينين ملتهبتين، بينما سامي في الغرفة المجاورة، يقرأ كتابًا، وكأن شيئًا لم يكن. شعرت بالخجل. كيف يستطيع أن يتحمل كل هذا؟ لماذا لا يرد عليها؟ هل هو ضعف؟ أم أنه قوة أكبر من فهمها؟
مرت الأيام، وفي كل مرة كانت تهاجمه، كانت ترى انعكاسًا لنفسها في عينيه. لم يكن يرى فيها سوى الحب، رغم أنها كانت تراه في لحظاتها الأسوأ. بدأت رنا تدرك أنها ليست غاضبة منه، بل من نفسها. كانت ترى فيه مرآة لنقصها، لعجزها عن التحكم بغضبها، ولأنها لم تعرف يومًا كيف تُحب دون أن تخشى فقدان من تحب.
ذات يوم، بعد شجار آخر، لم يغادر سامي الغرفة. جلس أمامها، نظر في عينيها وقال:
"رنا، أنا أحبك أكثر مما تتخيلين، لكنك تجرحين نفسك قبل أن تجرحيني. عندما تهدئين، اسألي نفسك: هل هذا ما تريدين أن تكوني عليه؟"
كانت كلماته كصفعة، لكنها صفعة أيقظت شيئًا في داخلها. قررت أن تواجه نفسها. بدأت تتحدث مع صديقة مقربة، تقرأ عن التحكم بالغضب، وتحاول فهم ما يدور في داخلها.
شيئًا فشيئًا، بدأت رنا تتغير. لم تعد الكلمات الجارحة تخرج بسهولة كما كانت، وبدأت تشعر بأن الغضب الذي كان يملأها بدأ يذوب، كجليد تحت شمس سامي الدافئة.
وفي إحدى الليالي، بعد شجار صغير انتهى سريعًا، قالت له وهي تمسك بيده:
"سامي، أريد أن أشكرك لأنك لم تترك يدي أبدًا، حتى عندما كنتُ أنا من يريد أن يتركها."
ابتسم سامي وأجاب بهدوء:
"رنا، الحب الحقيقي هو أن ترى جمال الشخص حتى في أسوأ لحظاته. وأنا أرى جمالك دائمًا."
وهكذا، بدأت رنا تدرك أن الصبر ليس ضعفًا، بل قوة، وأن الحب ليس مجرد كلمات، بل أفعال تعكس الحقيقة.
بقلم محمد الخضيري الجميلي