محمد الفاتح .... وأبو عبد الله الصغير .... والمسجد الأقصى
بقلم: ياسين عز الدين
المشهد الأول؛ محمد الفاتح والجدل البيزنطي:
كان فتح القسطنطينية حلم المسلمين على مدار قرون عديدة، منذ عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان والصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، وبقيت عاصمة الأمبرطورية البيزنطية عصية على الفاتحين لقرون طويلة، فقد كان موقعها الحصين عند مضيق البوسفور الفاصل بين بحر مرمرة والبحر الأسود التحدي الأكبر أمام الفاتحين، والتي أعجزت أغلبهم إلى أن جاء السلطان العثماني محمد الفاتح، وحاصر المدينة مصمماً على فتحها، لم تسعفه المدفعية العثمانية في دك أسوارها الحصينة، مع أن العثمانيون كانوا من رواد استخدام المدفعية في الجيوش، وكان ميناء عاصمة البيزنطيين يغلق وقت الحروب بسلاسل حديدية ضخمة تمنع سفن العثمانيين من اقتحام المدينة بحراً.
وبينما كان السلطان محمد الفاتح يفكر بطريقة ما لفتح المدينة وإخضاعها، تذكر الروايات أن أهل القسطنطينية كانوا يخوضون جدلاً عظيماً حول الملائكة هل هي إناث أم ذكور! وخلال الحصار جاءت للسلطان فكرة بأن ينقل سفنه براً (وليس بحراً) من أجل الالتفاف على السلاسل الحديدية، وقام رجاله ليلاً بجر السفن الضخمة براً لعدة كيلومترات، لتساهم هذه المناورة الذكية غير المتوقعة بفتح القسطنطينية عام 1453م والتي أصبحت من يومها أسطنبول (أو إسلامبول)، حاضرة العالم الإسلامي العظيمة، انتهت المعركة دون أن يحسم البيزنطيون أمر الملائكة هل هي من الإناث أم الذكور، ومن هنا جاءت تسمية (الجدل البيزنطي).
المشهد الثاني؛ أبو عبد الله الصغير وضياع الأندلس:
وبينما كانت فصول المجد يسطرها محمد الفاتح في المشرق الإسلامي، كانت فصول العار يخطها أبو عبد الله الصغير (محمد الثاني عشر) آخر ملوك العرب والمسلمين في الأندلس، فقد تحالف مع الأسبان الذين خلعوا والده لرفضه دفع الجزية لهم، وبعد توليه عرش مدينة غرناطة - آخر معاقل العرب في الأندلس عام 1482م بدأ صراعاً دامياً مع والده وعمه أبو عبد الله (محمد الزغل)، ووافق على أن تكون مملكته تابعة لفرديناند وإيزبيلا ملوك قشتالة وأرغون.
ومثلما يحصل مع أمثاله وبعدما قام بالمطلوب منه طالبه فرديناند وإيزبيلا بتسليم غرناطة عام 1489م، فرفض وخاض معركة العرب الأخيرة، ليسلم غرناطة عام 1492م لتكون الأندلس من بعده فردوس العرب المفقود، ولتتوحد مملكتي قشتالة وأرغون لتقودا أسبانية نحو عصر الفتوحات والأمجاد والانتصارات.
كان انتصار أبو عبد الله الصغير على عمه ووالده انتصاراً عبثياً لم يجن منه إلا عقوق الأمة قبل عقوق الأهل، كان اسماً على مسمى، صغير في طموحه وتفكيره وبصيرته، خرج أبو عبد الله الصغير من غرناطة وخرج معه العرب والمسلمون من الأندلس، بكى أبو عبد الله الصغير وهو خارج، فقالت له والدته كلمتها الشهيرة: (أبك كالنساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه كالرجال).
بين الأمس واليوم:
واليوم فيما يسعى الصهاينة بخطوات حثيثة لتهويد القدس والاستيلاء على المسجد الأقصى، نجد البيزنطيون الجدد يخوضون الجدل البيزنطي العقيم إياه، ونرى العبادلة الصغار الجدد يخوضون حروبهم التافهة الصغيرة، غير مكتفين بترك المسجد الأقصى دون نصرة أو مساعدة، بل مصرين على إلهاء وإشغال غيرهم بها.
ففي الوقت الذي ينفق الصهاينة الأموال الطائلة لحفر الأنفاق تحت المسجد الأقصى وتطويقه بالكنس والمعابد اليهودية ينشغل العبادلة الجدد بمعركة الراتب وتوفير الراتب، وفيما يعمل الصهاينة على تثبيت حق اليهود بالصلاة داخل المسجد الأقصى، وانتزاع اعتراف عربي-إسلامي بيهودية بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ينشغل العبادلة الجدد بمعركة الحصول على "الشرعية الدولية" ومن يحق له الجلوس على مقعد فلسطين في الهيئات الدولية، ومن يحق له مصافحة الأمريكان والأوروبيين.
وبينما يقولها الصهاينة جهرة أنهم يريدون تحويل المسجد الأقصى إلى الهيكل المزعوم ينشغل البيزنطيون الجدد ببحث أمور مثل: "هل نقيم في غزة إمارة إسلامية أم دولة الخلافة"، و"هل مات مايكل جاكسون على الإسلام أم على دين آبائه وأجداده"، و"هل كان شكسبير من أصل عربي أم أنه أنجليزي أباً عن جد"، و"من أتى أولاً الدجاجة أم البيضة".
وبينما يمهد الصهاينة لأنفسهم في العالم العربي والإسلامي، ويعملون على استمالة أهل الإسلام، وتأليبهم ضد بعضهم البعض ونسج التحالفات واختراق المجتمعات العربية، وتطبيعها على فكرة يهودية فلسطين ويهودية القدس ويهودية الأقصى، يتجادل البيزنطيون الجدد ليعرفوا إن كانت إيران تدعم حماس والمقاومة "حباً فيهم" أم لغايات اخرى
وقد شغلنا البيزنطيون الجدد في الستينات بجدل طويل عريض، بين القوميين الذين كانوا يرون أن الوحدة العربية هي طريق تحرير فلسطين، وبين الوطنيين من الفتحاويين وأشياعهم كانوا يجزمون بأن تحرير فلسطين هي الطريق للوحدة العربية، طبعاً لم يحققوا الوحدة ولم يحرروا شبراً واحداً من فلسطين.
واليوم يشغلونا بقضايا ثانوية مثل حقيقة ديانة محمود عباس وإن كان بهائياً أم مسلماً؛ هل تعلمون أن والدة محمد الفاتح كانت أميرة صربية مسيحية، لكن ذلك لم يمنعه أن يكون من أعظم قادة التاريخ الإسلامي، ولم يشفع للبيزنطيين أنهم "أخوال" محمد الفاتح، فلا يهمنا نسب الرجل بل ما يقدمه من عمل، وهذا الفرق بين العبادلة الجدد والبيزنطيين الجدد وبين غيرهم من الناس الأسوياء، فهم ينشغلون في توافه الأمور، أما العظام فيهتمون بالجوهر ويهتمون بما هو مهم.
بين محمد الفاتح وأبي عبد الله الصغير:
نقف اليوم أمام قضية الأقصى حيث يتربص بنا العبادلة الجدد والبيزنطيون الجدد، فمن ناحية لا يتوانى العبادلة الجدد من وضع يدهم بيد الصهاينة ضد أبناء شعبهم من أجل الانتقام لهزيمة تلقوها في انتخابات تشريعية، أو للفوز بمقعد في الأمم المتحدة، أو للاستحواذ على صفقة هواتف محمولة، والقدس تهود والأقصى يحاصر ويخطط لتحويله إلى هيكل يهودي صرف، لكن كشأن كل العبادلة الصغار فهذا أمر لا يعنيهم أبداً، فالصغار يعجزون دوماً عن رؤية الصورة الكبيرة والمشهد الكامل.
وفي الجهة المقابلة لا ينفك البيزنطيون الجدد عن إتحافنا بحروبهم ضد طواحين الهواء، ويتناقشون هل الأولوية لإصلاح الأمة أم لتحرير المسجد الأقصى؟ هل يمكن تحرير المسجد الأقصى والأنظمة الحالية ما زالت في مكانها؟ وما هي مصلحة إيران بتهديدها للكيان الصهيوني؟ وأيهما أولى بالقلق ضياع المسجد الأقصى أم دماء المسلمين التي تسفك – ونؤكد هنا أن البيزنطي الجديد لن ينقذ الأقصى ولن يحقن دماء المسلمين، فوظيفته طرح الأسئلة لا اقتراح الحلول، وطبعاً العمل والمبادرة وقيامه بتحريك شيء غير لسانه أمور غير واردة لديه وليست مسؤوليته.
البيزنطي الجديد يطلق جرس الأنذار (كما ظن)، لكن العمل واجتراح الحلول هو من صميم عمل الآخرين – أي أحد غير شخصه الكريم، لكن حتى وظيفته هذه يا ليته يقوم بها بالطريقة الصحيحة، فهو يحسن إطلاق أجراس الإنذار الكاذبة، وهو متخصص بإلهاء المسلمين بنقاشات جدلية جانبية لا تنتهي إلى نتيجة، وهذا أهم عنصر في جينات البيزنطي الجديد، أن يحرص على عدم انتهاء الجدل والنقاش حتى لو رغب الطرف المقابل بالانسحاب أو الالتهاء بأمور أكثر أهمية.
ما نحتاجه اليوم في المسجد الأقصى عقل يعمل مثل عقل محمد الفاتح، لا يقف أمام الحدود، لا يقف أمام تعريف المشكلة بل يتجاوزها إلى اجتراح الحلول، والأهم تنفيذها وترجمتها على أرض الواقع، ما نحتاجه هو أن نهمش أبو عبد الله الصغير وأن نقصيه وأن لا نسمح له بإثارة حروبه الصغيرة وأن لا ننجر إلى مربعه الذي يحبه ويتقن لعبته، وأبو عبد الله الصغير ليس موجوداً عند طرف دون آخر، بل هو موجود في كل مكان وكل زمان، لكن في أزمنة العز والفخار يهمش العبادلة الجدد ويهمش البيزنطيون الجدد، وتكون الكلمة الفصل لمحمد الفاتح.
اليوم نقف أمام خيارات إما أن نسير وفق أهواء البيزنطيين الجدد فنضيع القدس كما ضيع أسلافهم القسطنطينية، وعندها سيتشفى بنا الغرب ويقول لنا هذه بتلك، وإما نسير على درب أبي عبد الله الصغير وتصبح القدس والأقصى النسخة المحدثة من الأندلس، وإما أن نسير على طريق محمد الفاتح ونحقق المستحيل.