قرارات تاريخيّة تحت النيران
1. المقدمة
تُعد القيادة تحت النيران واحدة من أعقد أشكال القيادة وأشدها خطورة. فهي لا تتيح للقائد رفاهية التأمل ولا تَصْبِر على التردد. إنها لحظة يواجه فيها القائد اختبارات متداخلة من التوتر، والتعقيد، والانقسام، وغموض الموقف. في هذه اللحظة، تتكثف المسؤولية وتتشكل القرارات التي تترك أثرها في مجرى الأحداث.
القيادة في مثل هذه البيئات لا تتعلق فقط بالمهارة أو المعرفة، بل هي مزيج متكامل من الوعي، والحسم، والصلابة النفسية، والانضباط الذاتي، والقدرة على إدارة الضغط العالي، واتخاذ قرارات سريعة وفعالة رغم كل المعوقات.
⸻
2. المفهوم العام للقيادة تحت النيران
القيادة تحت النيران هي القدرة على قيادة الأفراد في بيئة تتسم بالمخاطر الفعلية، والضغط المتصاعد، وغموض الموقف، والاحتمالات المتغيرة. يُقصد بالنيران هنا المعنى الواسع للتهديدات سواء كانت قتالًا مباشرًا، أو انهيارًا في المعنويات، أو فوضى في المعلومات، أو تحديات في السيطرة.
هذا النوع من القيادة يُظهر الفارق بين من يملك صفة القائد ومن يؤدي وظيفة القيادة. فليس كل من يتصدر الموقع يتحلى بصفات القيادة الحقيقية، خصوصًا حين تتعرض المنظومة لهزات قوية.
⸻
3. السمات الذهنية والنفسية للقائد تحت النيران
1. القدرة على ضبط النفس رغم التهديد والخسارة.
2. صفاء الذهن أثناء الانفجارات الحسية والمعلوماتية.
3. الجاهزية لاتخاذ قرارات مؤلمة دون تردد.
4. البصيرة في التمييز بين ما هو طارئ وما هو خطير.
5. المرونة الذهنية في التعامل مع المعلومات الناقصة أو المتضاربة.
6. الاتزان في استخدام الصلاحيات وعدم الإفراط في ردود الأفعال.
7. الثقة المستندة إلى إعداد جيد وليست الثقة العمياء أو الاندفاعية.
8. الحفاظ على المعنويات الشخصية كأداة لنقل الثبات إلى المرؤوسين.
⸻
4. طبيعة البيئة التي يُمارَس فيها هذا النوع من القيادة
1. بيئة شديدة الاضطراب، تتغير معطياتها في الدقائق أحيانًا.
2. نقص في المعلومات، ووجود تضارب أو تشويش في ما هو متاح.
3. تعطل في بعض منظومات القيادة والسيطرة.
4. انهيارات جزئية في الصفوف أو انقطاع في سلاسل الأوامر.
5. تأثر الجندي نفسيًا بسبب الخطر المباشر أو فقدان الزملاء.
6. تشوش في حدود المسؤوليات والمهام بفعل الواقع المتغير.
7. ضغوط من المستويات الأعلى باتجاه تنفيذ قرارات عاجلة دون توافر الموارد الكافية.
8. الحاجة للقرارات الفردية رغم أن السياق جماعي ومتكامل.
⸻
5. مهارات اتخاذ القرار في لحظات الضغط العالي
1. قراءة الموقف التعبوي بطريقة مركّزة دون السقوط في التعميم أو الفرضيات.
2. اختزال الخيارات إلى الحد الأدنى مع ترجيح الأنسب وفقًا للموارد المتوفرة.
3. اعتماد قاعدة السرعة أولًا، ثم الدقة، وليس العكس.
4. تقييم العامل الزمني وتأثيره على كل قرار محتمل.
5. الفصل بين القرار الاستراتيجي والقرار التعبوي، وعدم الخلط بين المستويات.
6. رفض الوقوع في التردد بحجة الحاجة لمعلومات إضافية غير متاحة فعليًا.
7. التقدير الواقعي لقدرات الوحدة وعدم تحميلها فوق طاقتها.
8. توجيه القرار بحيث لا يكون حلاً لمشكلة واحدة فقط، بل يعالج السياق الكامل للموقف.
⸻
6. الانضباط القيادي في بيئة الخطر
1. الثبات في الشخصية وعدم السماح للظرف بتغيير أسلوب القيادة.
2. الاتساق في السلوك أمام المرؤوسين وعدم إرسال إشارات متناقضة.
3. التعامل مع الضغوط من الأعلى دون عكسها على الصف الأدنى.
4. الالتزام الصارم بالتوجيهات دون أن يلغي ذلك المرونة التكتيكية.
5. القدرة على تحمل الأخطاء الناتجة عن القرارات دون إلقاء اللوم.
6. حفظ الهيبة القيادية وسط الفوضى دون التصنع أو الاستعراض.
7. الصمت في اللحظة المناسبة والنطق في اللحظة الأهم.
8. الصبر على التعب والإرهاق وعدم نقله إلى سلوك سلبي تجاه الفريق.
⸻
7. أثر القيادة تحت النيران في معنويات القوة
1. كلما ثبت القائد، زاد الأمل في صفوف القوة.
2. القرار الحاسم يقلل مساحة الشك داخل الوحدة.
3. سلوك القائد في الأزمات يصبح معيارًا يُحتذى تلقائيًا.
4. الكلمات المختصرة للقائد تصبح ذات أثر يتجاوز ما تقوله الأوامر.
5. القائد حين يُظهر الانتباه والعدالة وسط الخطر يعزز الانضباط الطوعي.
6. انتقال الإشاعة داخل القوة يتراجع كلما كان القائد حاضرًا ومتابعًا.
7. الهدوء القيادي يُنتج حالة ذهنية مقاومة للانهيار النفسي.
8. القيادة الواضحة تُعطي الجنود شعورًا بالاتجاه حتى في غياب التفاصيل.
⸻
8. التهيئة للقيادة في بيئة النيران قبل حدوثها
1. التدريب في بيئات تحاكي الواقع القتالي بكل أبعاده.
2. إدماج القادة في تمارين عقلية حول اتخاذ القرار المفاجئ.
3. مراجعة دراسات حالة لقيادات تاريخية دون التركيز على الأسماء أو القصص.
4. بناء ذاكرة عضلية في اتخاذ القرار تحت الضغط عبر التكرار الممنهج.
5. ضبط اللياقة الذهنية عبر تقنيات السيطرة على النفس.
6. بناء فريق عمل يعرف شخصية القائد ويقرأها بدقة.
7. وضع أنظمة داخلية للتعويض اللحظي في حال انقطاع القيادة.
8. تكوين خلفية معرفية واسعة في القيادة التعبوية تمنع الارتباك عند المفاجآت.
⸻
9. الخاتمة
القيادة تحت النيران ليست نوعًا من البطولة الظرفية، بل هي انعكاس لتكوين طويل المدى في الفكر والسلوك والانضباط والقرار.
في لحظة واحدة، قد يكون القائد هو الحصن الأخير الذي تتماسك به الوحدة، أو نقطة الضعف التي تُفكك بها الجبهة.
من هنا، فإن القائد الذي يستعد لهذا النوع من التحدي قبل أن يواجهه، ويهيّئ نفسه بالعلم والتجربة والانضباط، هو وحده الذي يملك مفاتيح القرار الذي يصنع التاريخ.
بقلم الأستاذ محمد الخضيري الجميلي