الفصل الرابع: نَدَاءُ الدَّهْر
مرّت الأعوام، والنهر ظلّ كما هو،
يغيّر ملامحه في الفصول،
لكن الجزيرة لم تعد كما كانت.
اختفى الصيادون واحدًا تلو الآخر،
وصارت حكاية محمد الجميلي وعبدالله البزنة
حديث المسنّين في المجالس،
يتناقلونها كما يتناقلون الأمثال التي لا تموت.
كان بعضهم يقول إن محمد سكن على ضفة الجزيرة،
يبني شِباكًا لا يرميها،
وينتظر طلوع القمر ليتحدث مع النهر.
والبعض الآخر يحلف أنه رآه يمشي في الضباب،
يحمل مصباحًا صغيرًا،
وفي عينيه بريقُ من يعرف ما لا يُقال.
ذات مساء، جاء فيضان عظيم،
لم تشهد الجزيرة مثله منذ عقود.
عربدت الأمواج، وارتفع صوت الماء حتى لامس السماء.
هرب الناس إلى المرتفعات،
إلا محمد،
وقف عند الحافة،
وشبكته على كتفه،
ينظر إلى النهر كمن يعود إلى بيته بعد غياب طويل.
رفع رأسه نحو السماء وقال بهدوء:
ـ وفيتَ وعدك يا عبدالله… اليوم رجعت للموعد.
وفي لحظة خاطفة،
اندفع التيار نحوه،
غطّاه النهر،
ثم سكن كل شيء فجأة.
وعندما انحسر الفيضان مع الفجر،
لم يجدوه.
فقط وجدوا شِباكًا منسوجة بعنايةٍ غريبة،
وفي وسطها نقش الهلال وثلاث النقاط،
تحتها عبارة محفورة بخطّ اليد:
“الوفاء لا يموت، بل يغيّر موضعه.”
منذ ذلك اليوم،
صارت الجزيرة تُعرف بين الصيادين باسم “جزيرة الوفاء”،
ولا يمرّ أحد عند النهر إلا ويرمي شيئًا في الماء:
ريشة، وردة، أو قطعة خشب صغيرة،
ويقول همسًا:
ـ سلامٌ لك يا محمد… وسلامٌ لعبدالله.
وفي الليالي التي يكتمل فيها القمر،
يُقال إن النهر يضيء بلونٍ فضيٍّ ناعم،
ويُسمع صوت شِباك تُسحب بهدوء،
وصوت رجلين يضحكان مع الموج،
كأنهما ما زالا هناك،
يصيدان الحكايات بدل السمك،
ويحرسان سرّ الشرقاط إلى الأبد.