الفصل الثالث: سِرُّ الجَزِيرَة
في فجر اليوم الثالث،
كان محمد الجميلي يسير وحده على ضفة النهر،
يحمل مصباحًا صغيرًا وشبكته على كتفه،
وصوت الطيور الباكر يختلط بأنينٍ خافتٍ لا يشبه شيئًا عرفه من قبل.
كانت الجزيرة ساكنة، كأنها تنتظر اعترافًا من أحدٍ تأخّر عن البوح.
لم يكن يصدق أن عبدالله اختفى.
لكن كل خلية في جسده كانت تقول إن النهر أخذه.
وقف عند المكان الذي وجدت فيه الشباك،
وركع على الأرض، يلمس الحصى بيده كأنه يبحث عن أثرٍ في التراب.
تمتم:
ـ يا نهر… رجّع لي عبدالله، مثل ما ترجّع الماي للضفة.
في تلك اللحظة، سمع خريرًا خافتًا،
صوتًا كأنه ردّ عليه من الأعماق،
ثم رأى ما يشبه ظلًّا بشريًا يتحرك تحت سطح الماء.
قلبه خفق، لكنه لم يتراجع.
مدّ يده نحو الماء، فشعر ببرودةٍ قاسية،
وبرهةً واحدة، انفتح أمامه مشهد غريب كأنه حلم:
النهر لم يعد نهرًا، بل ممرٌّ من الضوء الأزرق،
تتداخل فيه صور رجالٍ بملابس قديمة، يحملون شِباكًا وأقواسًا،
وجوههم لا تُرى بوضوح،
لكن أحدهم كان يقف في المقدمة، يشبه عبدالله تمامًا.
قال الصوت من عمق الماء:
ـ من يسمع النداء… لا يعود كما كان.
ارتجف محمد، لكنه تشبّث بثبات الصيادين الذين لا يهربون من الموج.
ردّ بصوت مبحوح:
ـ وأنا ما أريد أرجع مثل ما كنت… أريد أعرف الحقيقة.
فجأة غمره الضوء،
ثم وجد نفسه في مكانٍ آخر —
مغارة صغيرة تحت الماء، فيها جدار من الطين المنقوش بنفس الرمز القديم: الهلال وثلاث نقاط.
كانت النقوش تحكي بلغةٍ منسية قصة صيادَين قديمين،
أحدهما خان العهد مع النهر،
فابتلعه التيار،
والآخر ظلّ وفيًا، فحُفظ اسمه بين أمواج الجزيرة.
حين لمس محمد الجدار،
ظهرت أمامه صورة عبدالله، مبتسمًا كما كان دائمًا،
وقال له بهدوء:
ـ النهر ما يغدر، بس يا محمد، لازم واحد منّا يبقى يحرس السرّ…
بلغ سلامي للجزيرة، ولا ترجع للنهر إلا إذا ناداك بخير.
ثم اختفى الضوء،
وأفاق محمد على الشاطئ، والماء يقطر من ثيابه،
وفي يده القطعة الخشبية القديمة، وقد تحوّل نقشها إلى اسمٍ واضح:
عبدالله البزنة.
منذ ذلك اليوم،
لم يَعُد أحد يرى محمد إلا في الفجر،
يجلس عند الشاطئ، يحدّق في الماء،
ويقول بهمسٍ يشبه الدعاء:
ـ ما مات عبدالله… هو صار جزء من النهر.
وأهل الشرقاط إلى اليوم،
إذا مرّوا ليلاً بجانب الجزيرة،
يقولون إنهم يسمعون صوتين يضحكان مع الموج…
كأن الصديقين ما افترقا قط.