المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية صيادا الجزيرة


محمد الخضيري
07-10-2025, 02:19 PM
رواية: صَيّادَا الجَزِيرَة

الفصل الأول: نَفَسُ النَّهْر

كانت الشمس تميل نحو دجلة، تنثر خيوطها الذهبية على صفحة الماء الهادئ كأنها تودّعه قبل الغروب.
في تلك اللحظة، كانت الجزيرة تشبه قطعة من التاريخ العالق بين الحلم والرماد،
البيوت الطينية تلوذ ببعضها، والريح تمرّ على السنابل اليابسة كأنها تهمس بسرّ قديم.

على ضفة النهر جلس محمد الجميلي، رجل في الأربعين من عمره، عركته الرياح وشمسه الشرقاط،
وجهه سمرة الجبال وصمته عميق كجرف الماء.
كان يُصلح شباكه بصبر الصيادين الذين تعلّموا من النهر أن الرزق لا يُستعجل.
وبجانبه جلس عبدالله البزنة، رفيق الصيد منذ الصبا،
يمتلك ضحكة صافية تكسر سكون المكان،
لكن في عينيه بريق لا يهدأ، كأنه يخفي خلفها شيئًا أكبر من الصيد.

قال عبدالله وهو يمدّ يده إلى الماء:
ـ تدري يا محمد… هذا النهر يعرفنا أكثر من أهلنا. كل مرّة نغيب، يرجع يستقبلنا بنفس الطيبة.
ابتسم محمد وقال:
ـ النهر مثل الأم، ما يملّ من أولاده، حتى لو رجعوا خايبين.

ضحك عبدالله بصوت عالٍ، ثم أشار إلى الضفة المقابلة:
ـ هناك، يم النخلتين، قبل سنين، غرگت أول سمچة صادنها سوا.
ـ أذكرها… يومها رجعت للبيت خالي اليدين، وأبويه حسبوني كاسر الدنيا رزق.
ـ الرزق مو بس سمچة، يا محمد. الرزق نية، وصحبة، وضمير مرتاح.

سكت الاثنان، وأخذ النهر يتنفس بينهما، يحمل في مجراه كل ما مضى من مواسم.

لكن الجزيرة كانت تُخفي في أعماقها ما لا يُقال.
فالناس يتحدثون عن نورٍ يظهر في الليالي المقمرة، وعن صوتٍ غريب يأتي من عمق النهر حين يسكت كل شيء.
وكان عبدالله هو أول من صدّق تلك الحكايات، أما محمد فظلّ يقول:
ـ اللي يسمع النهر، لازم يعرف يفرّق بين الموج والصدى.

تلك الليلة، قررا أن يبيتا عند الشط.
نصبا خيمتهما الصغيرة، أشعلا النار، وأخذا يتحدثان عن الصيد، عن الأيام، وعن أحلام لا تشيخ.
لكن مع اقتراب منتصف الليل، سمعا صوتًا خافتًا، كأنه أنين…
خرج من عمق الماء، متقطّعًا، غريبًا.
تبادلا النظرات، وقال عبدالله بصوت خافت:
ـ سمعت؟
ردّ محمد:
ـ إي، بس لا تتخيل… يمكن موج.

غير أن الموج تلك الليلة لم يتحرك.
وكانت الشرارة الأولى لقصة لن ينساها أحد في جزيرة الشرقاط
بقلم محمد الخضيري الجميلي

محمد الخضيري
07-10-2025, 02:21 PM
الفصل الثاني: صَوْتُ المَاء

استيقظ محمد على رعشة خفيفة في أطراف أصابعه،
كانت النار قد خمدت، والليل ملبّد بسكون غريب،
كأنّ الجزيرة احتبست أنفاسها.
مدّ بصره نحو النهر، فبدا له كأنه مرآة سوداء تتلألأ بنور القمر،
وفي عمقها شيء يتحرك، ليس سمكة، ولا طيف ريح.

عبدالله كان جالسًا عند الحافة،
شاردًا كمن يسمع نداءً لا يسمعه سواه.
قال بصوت خافت:
ـ محمد… أكو أحد يناديني من جوّه النهر.
اقترب محمد وهو يحاول أن يضحك:
ـ بعدك تصدگ حچي العجائز؟ يمكن صوت الماي لما يضرب الصخور.

لكن عبدالله لم يرد،
كان وجهه شاحبًا، وعيونه مثبتة على نقطة واحدة في عمق الماء.
وفجأة…
ارتفع صوت كأنه همس امرأة تبكي،
جاء من النهر، واضحًا مثل الحقيقة،
ثم تبعه دوّي خفيف كوقع حجر سقط في قاع بعيد.

تراجع محمد خطوتين، وقال بصوت جاف:
ـ قوم عبدالله، نرجع للبيت، الليل مو أمان اليوم.
لكن عبدالله ظلّ واقفًا،
كأن الأرض أمسكت قدميه،
ثم تمتم:
ـ هاي مو أول مرة أسمعها… كل ما أجي لهنا، تناديني بنفس الصوت.

أمسك محمد بذراعه بقوة:
ـ تگدر تسمع بكيفك، بس لا ترد. النهر ما يحب اللي يجاوبه.

في صباح اليوم التالي، عاد الاثنان للصيد،
لكن عبدالله تغيّر؛
صار قليل الكلام، يحدّق في الموج أكثر من الشباك،
وفي عينيه شيء يشبه الانتظار.

وبينما كانا يسحبان الشبكة،
ظهرت فيها قطعة من الخشب القديم، محفور عليها نقش غريب:
رمز يشبه الهلال، يحيط به ثلاث نقاط.
تفحّصها محمد وقال:
ـ ما أشبهه بالنقش اللي على الضريح القديم جوّه النخيل، مو؟
ردّ عبدالله وهو يلمسها:
ـ نفس النقش… بس هاي طالعة من الماي، مو من اليابسة.

منذ تلك اللحظة، بدأ كل شيء يتغيّر في الجزيرة.
الأسماك اختفت من النهر،
والناس صاروا يتحدثون عن ظلٍّ يظهر عند الغروب، يمرّ على الشاطئ ويختفي.
أما عبدالله… فصار يغيب عن البيت ليلتين أو ثلاث،
يقال إنه يبيت عند النهر، يسمع الصوت، ويعود مع الفجر.

وذات يوم، لم يعد.

عندما خرج محمد يبحث عنه،
لم يجد سوى شباكه،
عالقةً بين الصخور،
وفيها نفس الرمز المنقوش،
لكن هذه المرة، كان محفورًا على قطعة عظمٍ بشري.



هل ترغب سيدي اللواء أن أُكمل بالفصل الثالث — حيث تبدأ رحلة محمد في كشف سر الجزيرة؟
يمكن أن أجعل هذا الفصل يأخذ طابعًا غامضًا بطوليًا يربط بين النهر، والأسطورة، والوفاء بين الصديقين

محمد الخضيري
07-10-2025, 02:23 PM
الفصل الثالث: سِرُّ الجَزِيرَة

في فجر اليوم الثالث،
كان محمد الجميلي يسير وحده على ضفة النهر،
يحمل مصباحًا صغيرًا وشبكته على كتفه،
وصوت الطيور الباكر يختلط بأنينٍ خافتٍ لا يشبه شيئًا عرفه من قبل.
كانت الجزيرة ساكنة، كأنها تنتظر اعترافًا من أحدٍ تأخّر عن البوح.

لم يكن يصدق أن عبدالله اختفى.
لكن كل خلية في جسده كانت تقول إن النهر أخذه.
وقف عند المكان الذي وجدت فيه الشباك،
وركع على الأرض، يلمس الحصى بيده كأنه يبحث عن أثرٍ في التراب.
تمتم:
ـ يا نهر… رجّع لي عبدالله، مثل ما ترجّع الماي للضفة.

في تلك اللحظة، سمع خريرًا خافتًا،
صوتًا كأنه ردّ عليه من الأعماق،
ثم رأى ما يشبه ظلًّا بشريًا يتحرك تحت سطح الماء.
قلبه خفق، لكنه لم يتراجع.
مدّ يده نحو الماء، فشعر ببرودةٍ قاسية،
وبرهةً واحدة، انفتح أمامه مشهد غريب كأنه حلم:

النهر لم يعد نهرًا، بل ممرٌّ من الضوء الأزرق،
تتداخل فيه صور رجالٍ بملابس قديمة، يحملون شِباكًا وأقواسًا،
وجوههم لا تُرى بوضوح،
لكن أحدهم كان يقف في المقدمة، يشبه عبدالله تمامًا.

قال الصوت من عمق الماء:
ـ من يسمع النداء… لا يعود كما كان.

ارتجف محمد، لكنه تشبّث بثبات الصيادين الذين لا يهربون من الموج.
ردّ بصوت مبحوح:
ـ وأنا ما أريد أرجع مثل ما كنت… أريد أعرف الحقيقة.

فجأة غمره الضوء،
ثم وجد نفسه في مكانٍ آخر —
مغارة صغيرة تحت الماء، فيها جدار من الطين المنقوش بنفس الرمز القديم: الهلال وثلاث نقاط.
كانت النقوش تحكي بلغةٍ منسية قصة صيادَين قديمين،
أحدهما خان العهد مع النهر،
فابتلعه التيار،
والآخر ظلّ وفيًا، فحُفظ اسمه بين أمواج الجزيرة.

حين لمس محمد الجدار،
ظهرت أمامه صورة عبدالله، مبتسمًا كما كان دائمًا،
وقال له بهدوء:
ـ النهر ما يغدر، بس يا محمد، لازم واحد منّا يبقى يحرس السرّ…
بلغ سلامي للجزيرة، ولا ترجع للنهر إلا إذا ناداك بخير.

ثم اختفى الضوء،
وأفاق محمد على الشاطئ، والماء يقطر من ثيابه،
وفي يده القطعة الخشبية القديمة، وقد تحوّل نقشها إلى اسمٍ واضح:
عبدالله البزنة.

منذ ذلك اليوم،
لم يَعُد أحد يرى محمد إلا في الفجر،
يجلس عند الشاطئ، يحدّق في الماء،
ويقول بهمسٍ يشبه الدعاء:
ـ ما مات عبدالله… هو صار جزء من النهر.

وأهل الشرقاط إلى اليوم،
إذا مرّوا ليلاً بجانب الجزيرة،
يقولون إنهم يسمعون صوتين يضحكان مع الموج…
كأن الصديقين ما افترقا قط.

محمد الخضيري
07-10-2025, 02:25 PM
الفصل الرابع: نَدَاءُ الدَّهْر

مرّت الأعوام، والنهر ظلّ كما هو،
يغيّر ملامحه في الفصول،
لكن الجزيرة لم تعد كما كانت.
اختفى الصيادون واحدًا تلو الآخر،
وصارت حكاية محمد الجميلي وعبدالله البزنة
حديث المسنّين في المجالس،
يتناقلونها كما يتناقلون الأمثال التي لا تموت.

كان بعضهم يقول إن محمد سكن على ضفة الجزيرة،
يبني شِباكًا لا يرميها،
وينتظر طلوع القمر ليتحدث مع النهر.
والبعض الآخر يحلف أنه رآه يمشي في الضباب،
يحمل مصباحًا صغيرًا،
وفي عينيه بريقُ من يعرف ما لا يُقال.

ذات مساء، جاء فيضان عظيم،
لم تشهد الجزيرة مثله منذ عقود.
عربدت الأمواج، وارتفع صوت الماء حتى لامس السماء.
هرب الناس إلى المرتفعات،
إلا محمد،
وقف عند الحافة،
وشبكته على كتفه،
ينظر إلى النهر كمن يعود إلى بيته بعد غياب طويل.

رفع رأسه نحو السماء وقال بهدوء:
ـ وفيتَ وعدك يا عبدالله… اليوم رجعت للموعد.

وفي لحظة خاطفة،
اندفع التيار نحوه،
غطّاه النهر،
ثم سكن كل شيء فجأة.
وعندما انحسر الفيضان مع الفجر،
لم يجدوه.
فقط وجدوا شِباكًا منسوجة بعنايةٍ غريبة،
وفي وسطها نقش الهلال وثلاث النقاط،
تحتها عبارة محفورة بخطّ اليد:

“الوفاء لا يموت، بل يغيّر موضعه.”

منذ ذلك اليوم،
صارت الجزيرة تُعرف بين الصيادين باسم “جزيرة الوفاء”،
ولا يمرّ أحد عند النهر إلا ويرمي شيئًا في الماء:
ريشة، وردة، أو قطعة خشب صغيرة،
ويقول همسًا:
ـ سلامٌ لك يا محمد… وسلامٌ لعبدالله.

وفي الليالي التي يكتمل فيها القمر،
يُقال إن النهر يضيء بلونٍ فضيٍّ ناعم،
ويُسمع صوت شِباك تُسحب بهدوء،
وصوت رجلين يضحكان مع الموج،
كأنهما ما زالا هناك،
يصيدان الحكايات بدل السمك،
ويحرسان سرّ الشرقاط إلى الأبد.